
جرجي البيطار – مؤسس فن الموزاييك الدمشقي: الرجل الذي حوّل الخشب إلى فن
شارك
رواه يزن كريم – مؤسس داماسكوس بوكس
في أزقّة دمشق القديمة، حيث يتسلّل الضوء من بين الأقواس العتيقة وتفوح رائحة الخشب من الورش الصغيرة، وُلدت حكاية رجلٍ غيّر ملامح الفنّ الدمشقي إلى الأبد. اسمه جرجي البيطار، الحرفي الذي أبدع بفكره ويده فنّ الموزاييك الدمشقي منذ أكثر من قرنٍ ونصف، فحوّل الخشب الجامد إلى قصيدةٍ حيّةٍ من الجمال والصبر والروح.
ميلاد الحرفة
وُلد جرجي البيطار عام 1840 في الحارة الجوانية في باب توما بدمشق، في عائلةٍ عملت في مهنة البيطرة، لكنّ قلبه اتّجه إلى مهنةٍ أخرى — النجارة. كان الفتى الصغير يهوى التردد على سوق النجارين، منبهرًا بجمال التفاصيل ودقّة الأشكال، حتى أدرك أن الخشب يمكن أن يكون لغةً تعبّر عن الروح.
في زمنٍ لم تكن فيه الجامعات خيارًا شائعًا، كانت الحرف اليدوية روح دمشق الحقيقيّة، يتناقلها الناس من جيلٍ إلى جيل. رأى جرجي في مهنته رسالةً تتجاوز الصنعة؛ رسالةً تجمع بين الإبداع والإيمان والجمال. وفي يومٍ من الأيام، حين شاهد جذع شجرة ليمون يابسة في فناء أحد الأديرة، تخيّل كيف يمكن أن تتحوّل الخطوط والألوان إلى فنّ هندسيّ ينبض بالحياة.
ومن تلك اللحظة، وُلد فنّ الموزاييك الدمشقي.
تحويل الخشب إلى فن
بدأ جرجي بتجارب دقيقة على الخشب، يطعّمه بخيوطٍ من العاج والصدف والعظم، ويبتكر تكويناتٍ هندسية متناسقة تُظهر جمال الطبيعة في أدق تفاصيلها.
أسّس أول ورشةٍ له في ستينيات القرن التاسع عشر، وأبدع قطع أثاث وتحفًا فنيّة زيّنت القصور والكنائس والمنازل الدمشقية، حتى أصبح اسمه مرادفًا للفنّ والإتقان.
«لقد حوّل الخشب الساكن إلى فنٍّ حيٍّ يتكلّم لغة دمشق» — كما وصفه أحد معاصريه.
لم يكن فنّه مجرد صنعة، بل انعكاسًا لإيمانه وتواضعه، إذ عُرف جرجي بأعماله الخيرية وإخلاصه في خدمة الناس والفنّ.
شهرة تجاوزت حدود الشام
بحلول أواخر القرن التاسع عشر، صار اسم جرجي البيطار رمزًا للفنّ الدمشقي. شارك في معرض فيينا عام 1891، ثم في معرض باريس عام 1892، حيث عُرضت أعماله المذهلة من الخشب المطعّم بالصدف أمام أنظار العالم، فكانت دمشق حاضرةً فيه بروحها وألوانها.
وفي عام 1895، كلّفه والي دمشق بإعداد هديةٍ فاخرةٍ للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني، فأبدع خمسين قطعة فنيّة من الخزائن والمكاتب والكراسي، فنال وسام «المجيدي» تقديرًا لإبداعه وإخلاصه.
كما أهدى لاحقًا قطعًا فريدة إلى الفاتيكان ومقر الأمم المتحدة، ويُقال إن إحدى الطاولات التي صنعها كانت شاهدةً على توقيع قرارٍ تاريخيٍّ هناك — كأنّها رسالة سلامٍ من دمشق إلى العالم.
إرث الحرفي العظيم
لم يسجّل جرجي البيطار اختراعه باسمٍ أو امتيازٍ خاصٍّ به، بل تركه للناس، مؤمنًا بأن الفنّ يجب أن يُشارك لا أن يُحتكر.
وهكذا انتشرت ورش الموزاييك في دمشق، وتخرّج من مدرسته عشرات الحرفيين الذين حملوا الرسالة من بعده — إلياس اسطفان، أنطون بييت، ميشال شنيارة، وغيرهم ممن واصلوا طريقه وجعلوا من الموزاييك الدمشقي فنًّا خالدًا.
أصبح الموزاييك رمزًا لهويّة المدينة، ودليلًا على دقّة صُنّاعها وجمال أرواحهم.
توقيعٌ خالد
توفي جرجي البيطار عام 1935، بعد أن ترك وراءه إرثًا خالدًا من الخشب والصدف والنور. لا تزال أعماله تزيّن البيوت والمتاحف والكنائس، تشهد على يدٍ صنعت الفنّ من الإيمان، وجعلت من الهندسة صلاةً على الخشب.
«كلّ قطعة موزاييك أصيلة تحمل بصمته»، يقول الحرفيون في دمشق اليوم،
«لقد أعطى الحرفة روحها، وأعطى دمشق قصيدتها الخشبية.»
بقلم يزن كريم
في داماسكوس بوكس، نفخر بتكريم إرث جرجي بيطار — مؤسس فنّ الموزاييك الدمشقي، ورمز الصبر والإبداع السوري.
بفضل من تبعوا طريقه من الحرفيين، لا يزال هذا الفنّ حيًّا، قطعةً بعد أخرى، يربط بين الماضي والمستقبل.